على صعيد كربلاء

article image

لعل الثورة الحسينية اكبر حدث مر على ضمير الإنسانية، فكتب لها الخلود، فامتدت في الأمة وتجذرت، وفي العقيدة والوجدان تركزت، حضرت لتعمق الصلات، ولترسم الطريق في الحياة، وتوقظ الورى من السبات، وتوقد العبر في الخلجات.
اجل إن العاشر من محرم اختزل التاريخ برمته، فهو امتداد للصراع بين الحق والباطل، ففي كل ارض وفي كل يوم صراع بين الحق والباطل وفق قانون حتمية الصراع بين أولياء الله تعالى، وأولياء الطاغوت، فلا تخلو ارض من هذا النزاع ولا يخلو يوم من أيام منه، ولذا يقال : ( كل ارض كربلاء وكل يوم عاشوراء)، والإمام الحسين(عليه السلام) القيمة الحقيقية وجدلية الصراع بين النور والظلمة.
الرؤيا الأولى
إن أكثر ما استأثر اهتمام الناس من ثورة الإمام الحسين (عليه السلام)، هو جانب القصة والتي يظهر من خلالها معالم البطولة النادرة، والسمو الإنساني لدى معسكر الإمام الحسين (عليه السلام) بكل أطيافه وفئاته، وتمثل بالعطاء اللامنتهي والشعور بالصالح العام وترك الأنا وأحواله، وما تقدم من التضحيات في سبيل إنعاش المبادئ والرجوع إلى جادة العقل والصواب وإتباع ما اوجب أن يتبع، وهذا المعسكر محب، معطاء، فاعلاً للخير والصلاح.
وتعرض القصة ما تضمنه المعسكر المقابل – المعسكر اليزيدي _ من الجبن والخبث والسقوط لدى ادواته ، وهي تنفذ أبشع جريمة إنسانية، تميزت بالوحشية وغياب الرحمة، والحقد والكراهية، فاعلاً للرذيلة ، فاستباح المحرمات ، وقتل الأطفال والنساء، وسلب الحرائر.
إن القصة في الثورة الحسينية حاكت النفس البشرية، وأثارة فيها الأسى بما قدمته من دلالات مثيرة، فضلا عن طرحها للمزايا التربوية والإرشادية ، إلا إنها ليست المعبر الكافي للثورة الحسينية ولم تحط بجوانبها وجذورها التاريخية، وبيان ظروفها السياسية والاجتماعية، وكذلك إنها لم تفصح عن نتائج الثورة وآثارها، وهل انتصرت الثورة أم فشلت؟.
الرؤيا الثانية
القصة لم تتعرض لسيرة الإمام الحسين(ع عليه السلام)، ونشأته وسلوكياته، بل اكتفت بتعريفة بشكل مختصر جدا حيث أنسبته إلى جده المصطفى (صلى الله عليه وآله)، وانه ابن فاطمة الزهراء (عليها السلام) بضعة رسول الله، وان أباه امير المؤمنين وسيد الوصيين الامام علي بن أبي طالب (عليه السلام)،وإن أخاه سيد شباب الجنة و ريحانة الرسول الأعظم (ص)، فالمستمع للقصة يتعامل معها عاطفيا دون الوعي المطلوب الذي يعرفه بالحسين (عليه السلام)، كذلك يُغفل في القصة جوانب الثورة وجذورها التاريخية، ومن المعروف إن لكل ثورة جذور في نظام المجتمع الذي اندلعت فيه الثورة، ولكل ثورة ظروف سياسية واجتماعية معينة، ولكل ثورة نتائج و آثار، سواءً فشلت الثورة أم حققت الانتصار. والحقيقة إن الثورة لم تحقق الانتصار العسكري، وذلك لقلة العدة والعدد ، أما العقائدي، فقد رسخت العقيدة في نفوس الأمة .
الرؤيا الثالثة
خلدت الثورة الحسينية وخلد أبطالها، لأنها ثورة الاحرار والتطلعات ، ثورة الإيثار والتضحيات ، وبسط الحريات، إنها ثورة آمال الشعوب المضطهدة ومصالحهم.
لقد حقق ذلك الدم الطاهر الذي أروى صعيد كربلاء، مهمة الثورة فأعاد صورة الإسلام الحقيقية التي غُيبت بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وجاء ليلبي حاجات المجتمع، فتغلغل في أعماق الوجدان الشعبي، والعقل الواعي.
إن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) يعود إليها الأحرار، لياخذو دروسا في الإباء والإيثار والتضحية والفداء، فقد أطلقت هذه المدرسة فيضا من الإنتاج العقلي والعاطفي، فأغنت الأمة بأفكارها وأخلاقياتها، وأهدافها النبيلة، فإذا كان العاشر من محرم عام 61هجرية، يوم الخلود وانتصار الدم على السيف، فلابد أن يكون ملاذا للثوار ومنهلا يرتعوا منه.
الرؤيا الرابعة
الحقد الذي أظهره معسكر يزيد (لع) وأدواته وأذنابهم، له جذور تأصلت في الماضي السحيق وتجددت في الحاضر على صعيد كربلاء، فإذا كان المقتول عتبة قرب بئر بدر، فاليوم يقتل الإمام الحسين(عليه السلام)، وإذا قتل ابن عبد ود العامري يوم الخندق، فاليوم يقتل قمر العشيرة، وإذا قتل ابن جرول من هوازن يوم حنين، فاليوم يقتل علي الأكبر، فيالها من مقارنة،ـ قياس مع الفارق، لكن يزيد (لعنة الله عليه) عبر عن هذا القياس بأبيات وضعها على قصيدة ابن الزبعري، فقال :
ليت أشياخي ببدر شهدوا ***** جزع الخزرج من وقع الأسل
فأهلوا واستهلوا فرحا ***** ثم قالوا يا يزيد لا تشل
اجل ، لاحت على ارض القداسة الطاهرة يوم عاشوراء الشهادة، صور الرذيلة على يد كلاب أمية المسعورة في أبشع جريمة ارتكبها ابن آدم في الأرض، فقتل بنو أمية، القرم وأصحابه ، ولم يكن قصدهم قتل شخص الحسين (عليه السلام)، بل أرادوا قتل القرآن وقدسه، ولم يكونوا يرغبوا في هتك حرم النساء وسبي الأطفال إلا أن يهتكوا حرم رسول الله (صلى الله وعليه وآله)، ولم يكونوا في قصدهم اسر من تبقى من العصبة الصالحة ، إلا لأسر أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ارادوا استئصال البيت المحمدي برمته، تشفيا لما انزل الله بهم.

الرؤيا الخامسة
انتصرت المبادئ، وظهر الحق، وارتفعت رايات الهداية، ولبيت الدعوة التي أطلقها الإمام الحسين (عليه السلام)، وعام بعد عام يتجدد العهد، ويكثر العدد، حتى أصبح العدد يتجاوز عشرات الملايين، بعد أن انحسر الناصر والملبي بالثلة المؤمنة التي بذلت مهجها في سبيل إعلاء كلمة لا اله إلا الله محمد رسول الله، وهذا هو الفتح المبين الذي لم يدركه المعسكر الذي عض أصابع الندم على انتصاره المزيف، ولحقه العار إلى يوم القيامة، وقد خلد ذلك اليوم المشهود أمران ، الأول : خلود الثورة وقائدها وأصحابه ، خلود الذكرى الطيبة العطرة التي لم يستطع أعدائها محو ذكرها وطمس حقائقها، فأصبحت منارا يهتدى به، وعلم ينتمي إليه جميع الأحرار. أما الأمر الثاني، لحلوق العار لتلك الفئة الضالة التي رسمت بخط عريض صور الحقد الدفين على صعيد كربلاء وهتك الحرمات .