وصية بمداد الدم

article image

بين الوحدة والألم كدتُ ألفظ أنفاسي الأخيرة وبدأ قلبي يخفق بشدة وراح وجهي الذي رسم عليه الزمن بفرشاته تجاعيد تقادم السنين يتصبب عرقاً, أظنها سكرات الموت سأكتب وصيتي لأولادي الذين أرسلتهم تلبية لنداء الدين والعقيدة والوطن.
وعلى الرغم من حالتي المتدهورة لكنني هممت بالكتابة حتى انكسر القلم, فأخذت غيره وأصبح مصيره مثل الأول, وكتبت بثالث وتعجبت من مداده الذي يقطر دماً والخط لم يكن واضحاً لتشابك الكلمات مع بعضها نتيجة سيلان هذا الدم, كيف سيقرأ أولادي وصيتي؟, وهل سيفهمون ما كتبته لهم؟ لقد فات الأوان ولن أستطيع الكتابة مجدداً إنها لحظاتي الأخيرة, تألمت كثيراً وصرخت عالياً ولم يجبني أحد.
فاستيقظت لأجد نفسي على السرير, إنه كابوس مرعب كتم على أنفاسي, لابد أن أولادي الثلاثة قد أصابهم مكروه, سأتصل بابني الكبير لأطمئن عليه وعلى أخوته, أحسست بيدي ترتجف وأنا أمسك بالهاتف الجوال, حتى ردّ عليّ ابني الصغير فاستغربت من الأمر, وقلت له: أين أخوك يا ولدي؟, أجابني بصوت متقطع بالكاد أسمعه: يا أبتاه أعظم الله لك الأجر لقد استشهد أخي الكبير لأنه كان في السواتر الأمامية وقد أبلى بلاءً حسناً في معركة صعبة وكان النصر حليفنا, حينها تمالكت نفسي وقلت له: وما حال أخيك الثاني؟ فقال: لقد استشهد هو أيضاً فبعدما انتصرنا ذهب هو وعدد من المجاهدين ليمشطوا المنطقة من الأعداء حتى انفجر البيت الذي دخلوا فيه لأنه كان ملغوماً بالعبوات الناسفة, وقد أحس قبلها أنه سينال الشهادة في هذه الأيام, وأوصاني بأن أُرسل لك سلامه وتحياته ويطلب منك أن تدعو له, أما أنا يا أبتاه فإنني مصاب بجروح بالغة وسأشفى بإذن الله تعالى وأرجع للقتال مرة أخرى حتى ألتحق بإخواني, فلا تحزن يا أبي علينا فنحن في الجنة إن شاء الله تعالى وسترفع رأسك عالياً لتفتخر بنا فأنت أبٌ عظيم لثلاثة أبناء شهداء.
لقد كان وقع الصدمة كبيراً بالنسبة لرجل مُسنٍ مثلي أنهكته العلة وأرداه العمر, حتى سالت الدموع من عيني وأجهشت بالبكاء وأنا أردد: لقد بقيت وحيداً بلا أولاد فمن الذي سيحمل جنازتي؟ ومن الذي سيصلي عليّ؟ ومن الذي سيدفنني؟, حينها تذكرت الحلم وقررت أن أمسح تلك الدموع الساخنة وأذهب بحزم وعزم إلى جبهات القتال فأنا لا أريد أن أموت على الفراش متخاذلاً وأُقابل ربي وأنا من المتقاعسين عن القتال, سألتحق مع هؤلاء الشيوخ والشيبة فما الفرق بيننا, وأنال وسام الشهادة على تراب المعركة وألقاه (عز وجل) وأنا شهيدٌ وتغسلني دمائي, فإذا اُستشهد من أولادي اثنان فسنذهب خمسة بدلاً منهم, سآخذ أخي وحفيدي وأبناء عمومتي لنذهب جميعاً إلى الجهاد حتى آخر فرد من عشيرتنا ونرخص أنفسنا فداءً لديننا وسنحمي أرضنا وعرضنا من هؤلاء المرتزقة الأنجاس.