الحسين مقوض مشروع الطغيان

article image

لعل معادلة خلق الله لأدم تضمنت عناصر ومقادير غاية في الدقة والحساسية، ظهرت بوادرها منذ وقفة الاستبيان التي وقفها الملائكة حول خلق أدم باعتباره مخلوقاً ذا أرادة واختيار وبمقتضى ذلك فهو يمتلك حرية اختيار أحد النجدين فأما شاكراً وأما كفوراً، وبهذا القدر المتيقن فقد يختار الإنسان الانزلاق إلى هاوية العصيان، والانحراف عن الغاية التي خلق من أجلها وهي خلافة الله وعمارة الأرض، حينها جاءهم الرد أني أعلم ما لا تعلمون ولأجل هذا العلم أمر الله سبحانه ملائكته بالسجود لأدم وهنا بدرت وقفة أخرى ولكن هذه المرة ليست استبيانيه وإنما هي وقفة استكبارية صادرة من مخلوق كان يحسب على الملائكة سجد لله ما يقارب ستة ألاف سنة لا يعلم أهي من سني الدنيا أم من سني الآخرة، وقف ينَّظر ويشرعن طغيانه بوجوه منطقية عقلية تعتمد القياس في الاستدلال كما أخبر القران بذلك في قوله تعالى: (قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ ۖ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) ، باعتبار أن النار بمنظور إبليس لها الشرفية على الطين إذ أن النار حارة متحركة والطين بارد جامد، ولا نعلم من أين جاءت الشرفية فحجته لا تستقيم حتى بقياسه إذ أن النار مستهلكه متلفة للأشياء بينما الطين في طبيعته منتج معطاء من هنا نفهم لماذا لم يرد الله عليه لتفاهة ما تمسك به من حجة ولكن الله ألمح في جوابه في سورة الواقعة إلى جهل إبليس لحقيقة أصل خلقه بقوله تعالى:( أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ) ، فالنار في أصل منشئها إلى الشجرة التي أصلها وجذرها من الطين وفي الطين، ثم أن إبليس أخذ يؤسس لنظرية الطغيان والاستكبار ويحاول إكسابها المشروعية من خلال طرح الرهان على آدم وذريته لإثبات أنه وأبناءه غير مؤهلون لشغل منصب خلافة الله في الأرض، طالباً من الله أن ينظره إلى يوم يبعثون وأن يمده بآلية الإغواء كالوسوسة وتزيين الأشياء وإظهارها على غير حقيقتها وأنّ يقعد لأبن آدم كل مقعد (قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ) وأن يرى أبن آدم هو و قبيله من حيث لا يراهم(إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ) وأن يجري فيه مجرى الدم في العروق فكان له ذلك ولم يكتف بهذا كله بل طلب الولاية على آدم وذريته ولكن الله لم يعطه ذلك (ۗإِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ) بل جعل ولايته على الذين يتبعونه لأنهم اختاروا الوقوف معه وانحازوا لصفه (إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ) ، بدأ مشوار الرهان واصطف الطرفان فكان هابيل وقابيل في أول مناجزة بين الحق والباطل (َلئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ ۖ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ) ، وتوالت المناجزات تترا بين كتلة الحق المتمثلة بأنبياء الله وبين الحركات المناوئة لنهضة الأنبياء ففي مقابل كل ثورة حركة مضادة تسعى إلى تحطيم نتائج الثورة وإلى إرجاع المجتمع إلى مرحلة ما قبل الثورة وليس سبب ذلك معقداً ولا غامضاً لأن انتصار ثورة ما لا يعني فناء كل العناصر الفاسدة في الفترة السابقة دفعة واحدة بل تبقى وشالات منهم تبدأ نشاطها من أجل الحفاظ على وجودها وكيانها، من هنا نفهم تنقل المسؤولية من نبي إلى نبي ومن مصلح إلى مصلح للمداومة على بقاء نتائج الثورة واستمراريتها فكان في قبالة النمرود يقف إبراهيم وفي قبالة فرعون وهامان يقف موسى وفي قبالة اليهود يقف عيسى، ورسول الله في قبالة أبو جهل وأبو سفيان وعتاة قريش، فيلتحم المعسكران في اشد ملحمة حتى تصل ذروتها عند نقطة الوجود واللاوجود عند مفترق الطرق بين الهداية والضلالة عند الدين أو اللادين عند طف كربلاء المكان الذي اختير ليكون فيه النزاع الفصل بين الكتلتين فأوكل للحسين خلاصة جهاد الأنبياء ووقع عليه الاختيار الإلهي في حسم الرهان وتقويض إمبراطورية الطغيان التي أسس لها إبليس، واختار الطرف الأخر يزيد ممثل الكفر وخلاصته لهذه المناجزة ولإيقاف وإجهاض نتائج الثورات الرسالية التي قام بها الأنبياء والمصلحين في العالم، اعترك الضدان كلاً بما لديه فالحسين يمتلك آلة الطاعة ويزيد يمتلك آلة العصيان، الحسين يدعو الى الجنة ويزيد يدعو الى النار، الحسين يهب الحياة حياةً، ويزيد يحرق أغصان الزيتون، هكذا كان السجال في ساحة اللقاء، ليثبت الحسين بقدم صدق ويندحر يزيد بالذل والخزي والعار.
لقد استطاع الحسين (عليه السلام) بخروجه على دولة الطغيان أن يقزم كل طغاة الأرض وان يقوض مشروع إبليس الأول في كسب الرهان، وأن يضع معياراً ثابتاً للعدالة والمشروعية، فما من ظالمٍ مهما امتدت مملكة طغيانه واتسعت وحتى لو أن العالم كله أعطى بيعته لهذه المملكة تبقى فاقدة المشروعية لأن الحسين سلبها منذ اللحظة التي خرج بها على الطغيان بالعنوان الكلي .