التقاليد والأعراف العشائرية على مفترق الطرق

article image

الأعراف والتقاليد العشائرية سمة فريدة واضحة المعالم اتصف بها مجتمعنا العراقي، وانعكس من خلالها واقعه التاريخي والخصال العربية الأصيلة، وقد أضفت عليها العقيدة الإسلامية من الصفات والمحامد الأخلاقية السامية ما جعل منها مدعاة فخر لكل أبناء العشائر العراقية ،غير أنها وفي الوقت ذاته قد اختلط بها ما يكدّرها من الرواسب الجاهلية والانحرافات التي جعلتها وفي كثير من الأحيان تشكل عبئا اجتماعيا يستدعي المراجعة والتوقف.
تمتاز العشائر العراقية الضاربة في عمق التاريخ العربي الإنساني بأصالتها وافتخارها بعمقها، فقد عرف أن العرب يُنسبون إلى سام بن نوح (عليه السلام) كما ورد في (تاريخ العرب في الإسلام للدكتور جواد علي )، (وهم من الجزيرة العربية التي يحدّها العراق إلى بلاد الشام من الشمال ومن الشرق العراق إلى سواحل الخليج ، والبحر الأحمر من الغرب) ، ويذكر المؤرخون أن جزيرة العرب كان فيها ثلاث دول هي الأنباط وعاصمتها البتراء وتدمر والغساسنة، ويقول الأزهري أنهم (سمّوا عربا باسم بلدهم العربات) ويقول إسحاق بن الفرج :عربة باحة العرب ،وباحة دار أبي الفصاحة إسماعيل بن إبراهيم (عليهما السلام ) كما يذكر المؤرخون أن العرب ثلاث أقسام هي العرب العاربة الصرحاء ،والمستعربة وهم عرب الحجاز ،والمتعربة وهم بنو قحطان، كما أن سيل العرم في اليمن كان سببا في هجرة العشائر العربية التي سكنت العراق والشام ،ومن المآثر التي يعتد بها مجتمعنا العراقي تلك الجذور الضاربة في عمق التاريخ ،وانتماءها المتجذرالى تلك القبائل العربية الأصيلة، وقد اهتم العرب بالأنساب كي تحافظ القبيلة على تماسكها وبقائها ،ولقد أقرّ الإسلام هذا الاهتمام رافضا معه العصبية القبلية ومهتما بصلة الرحم كما ورد في قوله تعالى (َ أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ - الحجرات - الآية - 13َ،كما أكد الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله)على الأنساب لضمان صلة الأرحام وفي الحفاظ عليها قائلا(علّموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ) ،كما أمر سبحانه وتعالى نبيه الأكرم أن يبدأ النصح والإنذار لعشيرته أولا بقوله تعالى :( وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ - الشعراء - الآية - 214)كونها تُعدّ أسرته الأكبر التي ينبغي أن تحظى بالاهتمام كما تحظى أسرة كل فرد منا بالاهتمام باعتبارها اللبنة الأولى في بناء المجتمع الإنساني، وبقي هذا الاهتمام والتأكيد النابع من الحرص العقيدة الإسلامية على تماسك المجتمع وحفظ مكوناته والحرص على صلة الأرحام وتعزيز الروابط الاجتماعية والتي تشكل القبيلة الجزء الأكبر منه، ولعل اكتساب الفرد ازدياد القدرة في العمل مع الجماعة من دواعي هذا الاهتمام يعززه قول الإمام علي (عليه السلام ) (عشيرتك جناحك الذي به تطير، وأصلك الذي إليه تصير، ويدك التي بها تصول ) ،ولا يخفى على احد ما شكّله الإطار القبلي للمجتمعات العربية من تأثير جسيم على المجتمع الإسلامي وانعكاسات كبيرة من خطورة دورها ودور زعاماتها في خوض المعارك الحربية وحسم نتائجها الداخلية والخارجية والصراعات التي شهدتها العصور الإسلامية .
ومن المعلوم أن دور القبيلة أو العشيرة يتباين من حيث القوة والتأثير تبعاً لطبيعة المرحلة التي يعيشها المجتمع مع طبيعة السلطة الحاكمة، فيشهد دور القبيلة وتأثيراته انحسارا عند ازدياد هيبة السلطة وغلبة النظام والقانون، ويتزايد تأثيرها عند ضعف الدولة والسلطة الحاكمة وانعدام قدراتها على الإدارة المجتمعية وحسم النزاعات والمشاكل الاجتماعية، ولعل ما حصل في واقعنا العراقي بعد الاجتياح الأمريكي للعراق يؤكد الدور المهم في حسم الكثير من النزاعات وملأ الفراغ الذي تسببه الضعف الحكومي قبيل سقوط النظام وبعد سقوطه، ويُعدُّ هذا من الفضائل التي اضطلعت بها قبائل وعشائر الأمة العراقية بما عُرفت عنه من صفات حميدة في الشجاعة والشهامة والكرم والنبل وحسن الجوار والنخوة والقدرة العالية على احتواء الأزمات وفضّ النزاعات بما تمتلكه من هيبة وقدرة عالية على التأثير في المجتمع ، غير أن هناك ما طفح على السطح من شوائب كدّرت الجميل من هذه الصفات وسلبت الشهامة العربية الكثير من عذوبتها لتصبح بعض الأعراف والتقاليد العشائرية وبالاً يستوجب التوقف عنده والمراجعة الفاحصة، وإعادة النظر في كل ما يحصل من تأثيراتها وانعكاساتها على المجتمع ،كما أننا عند النظر إلى جملة ما يدور في واقعنا الاجتماعي السائد في أيامنا هذه نجد أن الكثير مما يحصل أو يُفرض في العرف العشائري أخذ يتفاقم وتتباعد أطرافه وتزداد تبعاته على كاهل مجتمعنا الجريح ، فتصبح هموم الناس مضاعفة وآلامهم ممزوجة بما يكابدونه من التدهور الاقتصادي والقصور الحاد في الخدمات نتيجة للصراع السياسي والفساد المالي والإداري في الدولة العراقية ، فضلا عن الصراع والمواجهة المصيرية مع الدواعش التكفيريين .إن وضع البعض من هذه الأعراف على طاولة التشريح يفرز لنا الكثير من الحقائق التي لا يمكن تجاهلها أو التهاون في رصدها والسعي إلى تطويقها كي لا تتسع دوائرها وتتشعب عواقبها وتجعل مصير مجتمعنا على حافة الهاوية، ولنتناول بعضا منها فعلى سبيل المثال نسمع كثيرا عن (الهدة العشائرية و الدكَّة )وهو اللجوء إلى استخدام العنف المسلح لإرغام أحد طرفي النزاع للاذعان أو للحصول على المطالب بقوة السلاح ،وبغض النظر عن الأحقية التي يمتلكها المتخاصمون في اللجوء إلى ذلك ،فإن ما تسببه هذه الصدامات من استخفاف بالآخرين والاستهانة بأرواحهم وكرامتهم تجعل الكثير مما يحصل مشابها وقريبا لما نتعرض له من العنف والإرهاب، فكم من المشاكل البسيطة التي تطورت، وكان من الممكن تداركها ببعض الأناة والصبر، فتحولت -بسبب افتقار أؤلئك المتخاصمين للحكمة - إلى كوارث راح ضحيتها حتى من ليس لهم علاقة بالنزاع لا من قريب أو بعيد ، وإنما أصابتهم الاطلاقات الطائشة التي وجّهت إلى أبناء الوطن الواحد والتي كان من الأولى أن تصوب إلى صدور أعدائه، إنّ انتزاع الحق من المعتدين هو شيء جيد وهو من الواجبات التي يفرضها مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمؤمن القوي أحبّ إلى الله من المؤمن الضعيف، ويحتاج فيها الرجوع إلى الحاكم الشرعي،والتقيد بالرؤية الشرعية ابتعاداً عن التهور والغطرسة وتنامي نزعة الشر والعدوان، ولعل ما حصل في محافظة البصرة من نزاعات عشائرية، بأنواع الأسلحة الخفيفة والثقيلة خير دليلٍ على ذلك، فأين نحن من الألفة والتسامح التي عُرف بها أبناء هذا الوطن!، ثم أين نحن من وصايا ديننا الحنيف وتعاليمه السّمحة ؟، رُوي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال لرجل في المسجد: (قد رأيتك تتخطى رقاب الناس وتؤذيهم ، من آذى مسلما فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله عز وجل) ، وأما فيما يتعلق بالفصول العشائرية فهناك ديّات فرضتها الشريعة لكل تعدٍ يجب أن يبتُّ بها الحاكم الشرعي، أما ما يفرض في الفصول العشائرية من مبالغ كبيرة على الخصم المدان فحدث ولا حرج فقد أصبحت وسيلةً للسلب والنهب ,وأصبح في مجتمعنا –وللأسف- من يمتهن أسلوب التكسب على ذلك والأغرب من هذا فقد تجد من يتفنن بكيفية التعرض للناس حتى تصل به الخسّة والمهانة إلى حملهم على ضربه بغية اصطياد من يكون فريسةً سهلةً في حبائل تلك الفصول الظالمة، وما نذكره لا يُعدُّ من المبالغات في شيء ، وإنما هي حقائق واقعية قد اعتادها الناس وانكوى بنارها الكثيرون، بيد هذا الجوّ المظلم من المعاناة الاجتماعية لا يعني خلوّ مجتمعنا من النماذج الخيرة التي نذرت نفسها للإصلاح وحل النزاعات ، فقد شهد مجتمعنا العراقي في الماضي ووقتنا الحاضر ما يقرّ العين ويثلج الصدر من المواقف النبيلة والمشرّفة التي وقفها زعماء قبائل وشيوخ عشائر من كرمٍ وسخاءٍ ،واشتهر عنهم بما امتازوا به من حكمةٍ وعدالةٍ في فضِ الخصومات وعدم الانحياز للجانب المعتدي، وان كان منتمياً لهم ،ورأينا منهم الكثير ممن يبذلون من أموالهم الخاصة حلاً للمشاكل، كما يساهمون دوماً في زرع الألفة والمحبة وإشاعة روح التسامح ونبذ العداوة والبغضاء بين أبناء الوطن الواحد، فمثل هؤلاء يكونون نظائر طيبة يُحتذى بها ومثالاً رائعاً للمؤمنين الذين يصدق عليهم قول رسول الله(ًص):(مثل المؤمنين في تراحمهم وتوادّهم كمثل الجسد إذا اشتكى عضوٌ منه تداعى سائره بالحمى والسهر) .
وأخيراً ينبغي القول أن التقاليد والأعراف العشائرية في مجتمعنا العراقي قد أصبحت على مفترقٍ من الطرق، فبين أن نتمسك بالجيد منها، ونساهم في تعزيزه حفاظاً على الثوابت الأخلاقية وكل ما هو صحيح ونافع في حياتنا الاجتماعية، وبما يتوافق مع ديننا الحنيف معتقداتنا، أو أن ننجرف لا قدّر الله مع السلوكيات الهجينة منها، وهذا ما لا يمكن القبول به في مجتمع عُرف بأصالته وعراقته.