خارطة الطريق في نهج الإمام الجواد (عليه السلام)

article image

عمق الرؤية يكشف الكثير من الحقائق التي يلفُّها الغموض، وعندما تنكشف الحقائق لا يكون هناك ثمة تخبط عشواءٍ أو ضياعٍ ، فيثبّت المرء أقدامه على أرض صلبة ويتجه بنفسه إلى حيث الاتجاه الصحيح، لمن شاء لنفسه الهداية لا الغواية وآثر لنفسه طريق السلامة.
مما لا يخفى مدى احتياج مجتمعاتنا المعاصرة إلى العمق والوضوح بالرؤية في زمان اختلط فيه الحابل بالنابل وزُيّفت فيه الحقائق وتداخلت فيه الألوان، فعندما نتحدث عن الشباب في وقتنا المعاصر نكون بأمس الحاجة إلى بصيرةٍ نافذةٍ، والتأسي بشخصية خالدةٍ فريدةٍ من نوعها ضربت جذورها في عمق التأريخ الإنساني، ومثالٍ حيٍّ يُحتذى به ويُقتدى به للسير على طريق الهداية والصلاح وهو الإمام محمد الجواد(عليه السلام)، فهو نبراس مضيء لشبابنا، شاءت العناية الإلهية أن تجعل منه حجةً من حجج الله في أرضه وتاسعاً للأئمة الهداة المعصومين وهو في عمر الصبا، فمن خلال استعراضنا لما كان عليه (عليه السلام)، وما يجب أن يكون عليه شباب مجتمعاتنا المعاصرة تتحقق لنا الرؤية الجلية ويتضح لنا أين يجب أن نضع أقدامنا بالضبط.
إن الاصطفاء الإلهي للإمام الجواد لتقلد منصب الإمامة وقيادة الأمة المسلمة في السابعة أو التاسعة من عمره الشريف، لم يكن إلا إظهار لمعجزة الإمامة، واتضاحها في نبوغه المبكر الذي سبق به زمانه وعلماء عصره، كما لم يكن (عليه السلام) في عنفوان نضوجه واتقاد شبابه إلا ذلك الشاب القاهر لنزواته، المفارق لشهواته، المكبُّ على طاعة ربه، متوسداً الصبر عن اللذائذ، زاهداً عن الدنيا، في الوقت الذي كانت فيه مغرياتها تمر خاشعةً من تحت قدميه، باسطةً إليه ذراعيها، ولم تكن القيان ونمارق الملوك وحلل التيجان لتشغله عن طاعة ربه - بعد أن كان كل شيء طوع أمره - بل امتدّ زهده عنها وانقطاعه منها ليصل بصوته الذي لم يزل يدوّي حكمةً لكل شاب يؤثر لنفسه العظة والحكمة فيقول (عليه السلام) : (توسد الصبر واعتنق الفقر، وارفض الشهوات، وخالف الهوى، واعلم بأنك لن تخلو من عين الله، فانظر كيف تكون) ، فهو يحثّ على خوض هذا الاختبار الذي كان فيه (عليه السلام) من أول المتفوقين على أقرانه من الشباب في كبح جماح النفس الأمارة بالسوء، معززاً ثقة المرء بنفسه وبربه فهو محفوفٌ بعناية الله وحفظه ما دام على سواء السبيل، ومن المؤكد أن انهماك الكثير من الشباب في وقتنا الحاضر في إشباع الرغبات والملذات وانفتاحهم على ما تقدمه المدنية الغربية من تحلل للقيم، واستقبالهم للرسائل الشيطانية التي تبثها وسائلها المغرضة يؤدي إلى انخراطهم في دوامة من الضياع والفوضوية والتقليد الأعمى لكل ما هو هجين ومستورد من أفكارٍ ومفاهيمٍ، فلا يَعون ماذا يُراد لهم ومن أين وإلى أين يسار بهم؟!، فيما يؤكد شباب الأئمة (عليهم السلام) أن الإصغاء لا ينبغي أن يكون إلا لصوت الحق، وإلى الداعي إلى الله – بغضّ النظر عن الكيفية والوسيلة - وكل ما يُناقض ذلك إنما هو عبادةٌ للشيطان وهو الانحدار والهلاك بعينه فيقول (عليه السلام) مُحذراً): من أصغى إلى ناطقٍ فقد عبده ، فإن كان الناطق عن الله فقد عبد الله وإن كان الناطق ينطق عن إبليس فقد عبد إبليس) ، إن ازدواجية تعامل الإعلام الغربي تجعلنا أمام مفارقات عجيبة!، وسقطات غريبة، توحي وكأننا نسير وسط حقول ألغام ومتفجرات، والفرد المسلم ، أو الشاب والشابة المسلمة هم المستهدفون دائماً، فلا يراد للمسلم أن يكون عنصراً إيجابياً نافعاً، بل العكس يراد له أن يكون سلبياً مُستهلِكاً وأداةً طيعةً لتصريف كل ما تنتجه الماكنة الغربية ! فإذا ما أردنا انتقاء أو الوصول إلى كل ما هو نافع مما أنتجته المدنية والعالم المعاصر، يجب أن نحمل في رحلتنا خارطة طريق ومجسات أوضح معالمها إمامنا الجواد(عليه السلام) خلال جملةٍ من الوصايا والأحاديث الإرشادية التي يمكن من خلالها أن نتحسس كل ما هو خطيرٌ ومسببٌ للضرر، فالمدنية التي أنتج علماؤها من علوم ونظرياتٍ حديثة، وعلى سبيل المثال منها نظريات إدارة الوقت، والتخطيط ، وتحديد الأهداف ، وإدارة الأزمات، في الوقت ذاته أنتجت وسائل إعلامها ما يوازيها مما يساهم في هدر الوقت وضياعه على التفاهات والمجون واللهو مما يروّج له إعلامها المضلل، والتخبط والعبثية في النهج والسلوك، وغياب التخطيط في حياة الفرد والأسرة والمجتمع، والمدنية التي يتبجح قادتها وزعماؤها بحقوق الإنسان وحريته، لم نحصل منها غير الانتهاك السافر لحقوق الإنسان ومصادرة حرياته والاستخفاف بدمه المراق بما يقدمه سباق التسلح وترسانات الأسلحة وتجارها من دمارٍ وقتلٍ وتشريدٍ يهدد مصير الإنسانية ويبشر بحتمية انقراضها، إنّ الكم الهائل من الرسائل المتلاحقة التي يلتقطها الفرد المسلم لا ترسم في طياتها أهدافاً إيجابية محددة وإنما هي رسائل معبأة بالتضليل والفوضى وتؤدي إلى تفاقم المشاكل والأزمات بدلاً من حلّها، والتي لا ينفلت المرء من إحداها حتى يقع في مشاكل أخرى أكبر وأكثر تعقيداً، كونها تخلو من أهداف حياتية واضحة ومحددة، فالإمام الجواد (عليه السلام) يضع بين أيدينا خارطة طريق واضحة لتحديد مساراتنا وأهدافنا محذراً من أن إتباع الهوى يعني الوقوع في شرك الأعداء فيقول (عليه السلام):( من أطاع هواه أعطى عدوه مناه) ، ولا ينتج عن إتباع الهوى وامتطاء الشهوات إلا العواقب الوخيمة وخسارة ما لا يعوض، فيقول الإمام الجواد(عليه السلام) في ذلك:( راكب الشهوات لا تقال له عثرة) .ويجعل اختيار الأعمال مسبوقاً بتحديد الأهداف والعلم المسبق بالنتائج المثمرة وبمعرفةٍ ودرايةٍ لا عن تخبطٍ وغوايةٍ فالعملية لديه بالكامل إنما هي عملية تخطيطية منظمة تحدد فيها الأهداف والمسارات وتستوجب توافر المعرفة والعلم المسبق بكل الجزئيات والتفاصيل وليس فوضوياً يؤدي إلى الإفساد والضرر فيقول (عليه السلام):(من عمل على غير علمٍ كان ما يفسد أكثر مما يصلح) .
إن الانفتاح على المدنية بكافة طرقه – سواء كان من خلال وسائل الإعلام التي جعلت من العالم قريةً صغيرة ً أو من خلال السفر والهجرة - ليس محظوراً- وإنما فيه شروط ومحددات دعا لها الشارع المقدس ولسنا بصدد تفصيلاتها، غير أنّ ما يهمّنا الخط العام الذي حدده شباب الأئمة بغية الحفاظ على الدين، وهو ما يؤدي إلى الحفاظ على مكارم الأخلاق، وليس لمن لم يقدر على الحفاظ على دينه ولا يأمن على نفسه من الوقوع في الخطايا والمعاصي من السفر أو الهجرة إلى بلاد الكفر، لاحتمالية مجاورة الخلطاء ورفقاء السوء سواء كان ذلك عن إرادةٍ واختيار أو رغماً عنه والخطورة من ذلك كخطورة اقتراب النار من الوقود، ولا يخفى ما يؤكده علماء الاجتماع من آثار الطبائع المكتسبة في التربية الاجتماعية وانعكاسات ذلك على أخلاق الفرد وهو مما يصيبه خارج نطاق وتأثير التربية الأسرية، وهو ما يُخاف منه على أبنائنا المغتربين، وهو لا يختلف عن مصاحبة رفقاء السوء والأشرار من الناس سواء كان في بلاد المسلمين أو بلاد الكفر غير أن احتمالات الوقوع بمثل هذا الضرر في بلاد الكفر أكثر منه بكثير عن بلاد المسلمين التي تغمرها طبائع المسلمين وتملأ أجواءها روائح الإسلام، يقول مولانا الجواد محذراً من رفقاء السوء ومصاحبة الأشرار في تعبيرٍ دقيقٍ كأنه يوحي في فحواه النصيحة لمن يغرُّه الغرب المتمدن بلمعانه الزائل المغلف بمغرياته الفانية:( إيّاك ومصاحبة الشرير فإنه كالسيف المسلول، يحسن منظره ويقبح أثره) .