كيان داعش يحزم حقائبه
لم يكن تكريم ابن آدم من لدن العزيز القدير أمراً سطحياً، وإنّما جاء عن تقديرٍ ربانيٍّ لما أودعه سبحانه وتعالى في هذا المخلوق من مواهب وطاقاتٍ كامنة ٍيرتقي بها عن سواه من الخلائق والموجودات، وانفراده بالمستوى العالي من القدرة العقلية وقوة الإرادة، ومن جانبٍ آخرٍ سموّ النماذج البشرية الخالدة المعطاءة والمؤثرة في التأريخ الإنساني، والتي ارتقت في نقائها إلى مصافِّ الملائكة، بل إلى ما هو أسمى من ذلك ممن يباهي بهم الله تعالى ملائكته في إخلاصهم بطاعته وتفانيهم في الخضوع لمشيئته.
وربّ سائلٍ يسأل إنّ في قوله تعالى (وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ - الأنعام – الآية116) دليل قرآني يؤكد أنّ أكثر من في الأرض على ضلالة، فما هو المبرر لهذا التكريم والتفضيل!، وواقع الأمر إن الله تعالى قد منَّ على عباده بما أودعه فيهم من المواهب التي تستوجب الطاعة والإيمان بدلاً من الكفر والعصيان، لأن الإنسان في أصل خلقه مجبول على الفطرة في فعل الخير وعندما مُنحَ هذا التكريم كان بلحاظ هذه الفطرة، إلاّ أن الإنسان قد ينحرف عن هذه الفطرة فيظلم نفسه ويظلم الآخرين، وفي الآخرة يُردّ الظالم والجاحد بأنعم الله إلى أشدّ العذاب، فيعذّب الظالمين بظلمهم (ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ ) ويثيب الصالحين على إصلاحهم والمحسنين بإحسانهم، كما أنّها كرامةٌ أخرى يُضفيها على عباده المخلصين فلولاهم لأنزل تعالى غضبه على من في الأرض جميعاً، فيقول سبحانه : (وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ - الأنفال – الآية 33)، وكما في المقولة (ألف عينٍ لأجل عينٍ تكرم )، فلم يمنع من سفَّ عن طريق الحق أن تستمرّ الحياة (مَّا كَانَ اللّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّىَ يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)، ولم تكن قلّة عدد المخلصين في طاعة الله والمجاهدين في سبيله إلا أن تزيدهم عزماً وصلابةً وقوةً وإرادةً ، فالمؤمن الصابر لا يستوحش من طريق الحق، وكما يقول أمير المؤمنين الإمام عليّ (عليه السلام) (لاتستوحشوا من طريق الحق لقلة سالكيه)، بل يزداد قوةً وتسديداً إلهياً، ويرتقي الوصف القرآني لنبي الله إبراهيم (عليه السلام) فيجعله بمثابة أمةٍ بقوله تعالى (إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ - النحل - الآية - 120 )، بما ميز به من قوةٍ وعزمٍ في الدعوة إلى الله، وهو ديدن أصفياء الله في الدفاع عن الحق، فلقد كان رسول الله والإمام علي (عليهما السلام) يزدادان قوةً وصلابةً كلما ازدادت الأخطار وازدحمت الأهوال، حيث يذكر المؤرخون:( لم يمر على الناس يوم مثل يوم أحد أشد منه، جرح النبي صلى الله عليه وآله،وقتل حمزة وانكشف الناس عن النبي "ص" فتركوه وهو يقول : أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب
فجاء علي"عليه السلام" بالسيف إلى النبي "صلى الله عليه وآله" فقال له النبي"ص" : يا علي اذهب . فقال : يا نبي الله على هذه الحال ؟ ما كنت لأفعل . قال : فشدَّ على هؤلاء - عصابة من المشركين - فشدَّ عليهم حتى قتل فيهم قتلا وفرق جماعتهم ثم رجع إلي النبي "ص" فقال :( له النبي : يا علي ) اذهب . فقال : يا نبي الله ما كنت لأدعك على هذه الحال، قال : فشد على هؤلاء - عصابة أخرى مجتمعة – فشد عليهم فقتل فيهم جماعة وفرق جماعتهم ثم رجع فقال جبرائيل للنبي " صلى الله عليه وآله " وهو معه إن هذه لهي المواساة ! فقال النبي "ص" : إنه مني وأنا منه)، وهل يأمل من صدق إيمانهم إلا إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة ،ولقد ضرب سيد الشهداء أبو عبد الله مثالاً رائعاً في الثبات على طريق الحق بعد أن ّ قدّم الضحايا تلو الضحايا من أبنائه وأخوته وأصحابه قرابين على طريق الشهادة، فلم يكن ليتراجع بل يزداد عزماً وإصراراً يقول الرواة: ( فو الله ! ما رأيت مكثوراً قطّ قد قتل ولده وأهل بيته وأصحابه أربط جأشاً منه !وإن كانت الرجال لتشدّ عليه فيشدّ عليها بسيفه، فتنكشف عنه انكشاف المعزى إذا شدّ فيها الذئب !)، فلقد كان (عليه السلام) يستبشر بالموت فمن ورائه جنّات النعيم، وقد جعل من أصحابه على هذا المنوال من التسابق إلى الميدان نيلاً للشهادة .
إنّ هذا الصمود والإصرار اقتدى به أبطالنا في الحشد الشعبي فقد ضربوا أروع الأمثلة في قتالهم كيان داعش الإرهابي وتحقيقهم الانتصارات المتلاحقة في أصعب الظروف التي تشهدها الساحة العراقية ولم تثنهم المؤامرات التي يحوكها دواعش السياسة ومن يؤازرهم من المتخاذلين الذين أصبحوا أشبه بالدمى تتلاعب بهم الأصابع الأجنبية المعادية، فحينما لم تغن نفعاً محاولات التقليل من عظمة الانتصارات المتحققة والتي أصبحت كالشمس التي لا تخفى بغربال اتخذوا من الانهيار المالي –الذي يسببه مصّاصو دماء شعبنا الجريح وتراجع أسعار النفط – ذريعةً للتطاول على التخصيصات المالية وإعطاء الحشد الشعبي أقل بكثير مما تتطلبه المعركة من دعمٍ ماديٍّ ومعنويٍّ، غير أنّ كل ذلك لن يجدي نفعاً لأؤلئك الذين تخندقوا مع الأعداء فالنصر النهائي آتٍ لا محالة، مادام هناك تآزرٌ بين الغيارى والشرفاء من أبناء الوطن الواحد في دعم الحشد الشعبي مادياً ومعنوياً، والتفافهم حول المرجعية الرشيدة التي لم يعرف العراقيون أشدّ منها حرصاً على سلامة هذا الوطن، ولا نعدو الحقيقة إن قلنا أنّ هناك أيادٍ خفيةً وبركاتٍ ربّانيةٍ تكمن وراء هذا الصمود ووراء كل هذه الانتصارات ، وأنّ بركات مولانا صاحب العصر والزمان(عجل الله فرجه) لن تنقطع عن دعم وتسديد الرابضين على سواتر البطولة.
إنّ العالم كلّه يترقبّ وينظر بذهول إلى الأبطال في الحشد الشعبي وهم يقلبون المعادلة وينهون أسطورة دولة داعش الإجرامية ويعلنون يوماً بعد يوم هزيمة عدوٍّ همجيٍّ يتلقّى كل أصناف الدعم من قوى إقليمية ودولية لا تريد لهذا البلد أن يعيش أهله بسلام، إنّ تصدّي أبطالنا للإرهاب إنما هو قتالٌ بالنيابة عن المجتمع الدولي الذي بدأ ينظر بكل حذرٍ وترقّبٍ لكيان داعش الارهابي بعد أن أخذ قادته يحزمون حقائبهم لاختيار ملاذاتٍ آمنةٍ جديدةٍ لهم، والبحث عن أراضٍ بديلةٍ رخوةٍ يمكن أن تتقبل أمثالهم، ويبدو أنّ أنظارهم أخذت تتجه صوب شمال أفريقيا، فالعراق لم يعد يصلح لهم بعد أن أصبح مقبرةً لأجلافهم ، ويبدو أنّ الاستقراء الدولي لما هو قادم يؤكد أنّ الدواعش ستتغير مواقعهم وسوف ينقلب السحر على الساحر فقد أخذت الكثير من الدول التي تدعم الإرهاب تكتوي بناره، والآتي سيكون هو الأصعب على تلك الدول، ومن الدلائل التي تؤكد ذلك تصريح الأمين العام للأمم المتحدة بان كيمون (أنّ 34 منظّمة إرهابية أعلنت انضمامها مؤخراً لكيان داعش الإرهابي مؤكداً على ضرورة وجود تضامن دولي للتصدي للإرهاب)، إنّ نشاط هذه الخلايا آخذٌ بالازدياد في شمال أفريقيا، فضلاً عن باقي دول العالم، وكل الدلائل تؤكد أنّ العراقيين باتوا قاب قوسين أو أدنى من بشرى التحرير النهائي لهذا التراب المقدس ولا يحتاج منا إلا المزيد من الإصرار للوصول إلى نهاية حلقة السباق وبلوغ الفوز والنصر النهائي على الأعداء.