أعظمنا إيماناً أكثرنا شجاعةً

article image

إذا كان يمكن لقلب رجلٍ واحدٍ أن يتّسع للنبوة والرسالة ،فيقيناً أن على هذا القلب أن يتسع لما يعادلهما من الشجاعة الكافية ، وعندما تكون النبوة والرسالة في القلب ذاته في زمانٍ يطل ّ على آخر الأزمنة ،فلا بد أن يكون هذا القلب في صدر رجلٍ اسمه محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) خاتم الأنبياء والرّسل ،كما لابدّ لهذا القلب أن يكون مغموراً في وعاءٍ من الرّحمة التي لا يسعها الوجود بأسره ، فهو الرّحمة المهداة.
لسانٌ نبويٌ انطلق من غار حراء ممتطياً صهوة الريح قاطعاً الصحراء ، يصدح بكلمات الله التامات ، رسالة ٌامتدّ شعاعها الذهبي مخترقاً الحجب ومنيراً الدّياجي والظلمات ، نفحاتٌ نورانيةٌ اكتسحت البداوة والوحشية لتصنع منها أمةً هي خير أمةٍ أخرجت للناس ، تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر .
لم يكن النهوض وحمل أعباء الرسالة إلا جذوةٌ من النور الإلهي حملها قلبٌ شجاعٌ لم تهزّه أنياب الشرك التي انغرزت في كل موضعٍ من مواضع جسده الشريف ،فلم تثبّطه ألسنتهم التي اتّهمته بالسحر والكهانة ، أو توهنه أيديهم التي رمته بالدم والحجارة ، انتفض بينهم انتفاضة الليث من عرينه متحدّياً جبابرة الارستقراطية الجاهلية وعتاتها ، ليقول للشرك والكفر كلا ، ويقول للجاهلية والفسق والفجور كلا، حمل قلبه الممتلئ بالرّحمة والرأفة في وجه الظلم والقسوة والغلظة، ليجعل منها قلوباً تتنفّس الإنسانية وتدافع عنها.
إن الشجاعة لها أهميتها القصوى كونها تعدّ من العوامل الأساسية التي تساهم في تحقيق الكثير من الفضائل وبغيرها لا يمكن أن تتحقق فالكرم مثلاً يحتاج الى الشجاعة في كبح جماح النفس ونزوعها الى الشح والبخل، ويقول الحكماء إنّ للشجاعةِ وجهين، فأمّا أن يولد المرء شجاعاً ويكون قد جبل عليها وإمّا أن يكون ممن يقتل الخوف الذي في داخله ، ويقيناُ أنّه(صلى الله عليه وآله) خلق شجاعاً لا يعرف الخوف طريقاً الى قلبه ، امتطى صهوة الشجاعة بأصنافها ومنها كبح غمار الشهوات ومحاسبة الذات وعدم التقهقر أمام الميول والنزوات ، فلم تكن لتزعزع قلبه عن المضي في حمل الرسالة مغريات قريش ودعوتهم له بالترغيب والترهيب فمن البطش والعدوان تارةً أو أن يكون ملكاً عليهم تارةً أخرى ،ظناً منهم تركه أمر الرسالة فما كان جوابه لهم إلا أن قال : ( صلى الله عليه وآله) : « يا عمّ ، واللّه لو وضعوا الشّمس في يميني و القمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره اللّه أو أهلك فيه ، ما تركته » ، لقد امتلك (صلى الله عليه وآله) روحاً وثابةً لا تعرف الكلل والملل ولا تقبل الهوان والهزيمة ،أو ترضى بالانكسار والتراجع، ولقد كان شجاعاً عظيم الحزم في قراراته كلّها ، وكيف لا يكون كذلك وهو يأتمر بأمر السماء و باشر بدعوته سراً وعلانيةً ،ولقد كان المؤمنون يستمدّون منه العزم ويقتدون برباطة جأشه وشجاعته ، ويقيناً أنّ أكثر الناس إيماناً أكثرهم شجاعةً ولا يعني عدم إسهاب الكثيرين والتوغل في الحديث عن شجاعته (صلى الله عليه وآله)، أن يكون هناك من هو أشجع منه -حاشاه من ذلك- وإنما تأكيدهم على دوره في حمل الرسالة بكل جوانبها ومفرداتها الأخلاقية ، فهذا الإمام علي (عليه السلام) وهو أشجع العرب والعجم يقول : (كنّا إذا اشتدّ البأس لذنا برسول الله )، ونُقل عن بن عمر أنه قال :(ما رأيت أحداً أجود ولا أنجد ولا أشجع ولا أوضأ من رسول الله) ، ولا يخفى أنّ آل البيت النبوة هم في مقدمة الرجال الذين امتدّت إليهم آثار هذه الشجاعة ورباطة الجأش والحزم فصنعت منهم رجالاً خالدين حققوا أعظم الانتصارات ، وسجّلوا أروع البطولات وهم يحملون مشعل الهداية والرسالة إلى الناس كافة .
ورغم كل هذا فإنّ هذا القلب العظيم الممتلئ شجاعةً وحزماً كان قد غمرته الرّحمة الإلهية وصنعت منه أنموذجا فريداً خالداً يتعذّر على أن ينجب الدهر نظيراً له ، مع حيازته عظيم مكارم الأخلاق التي شعّت أنوارها وأثنى على من يحملها بارئها بقوله سبحانه :( وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ - القلم - الآية – 4) ، وأقرّها حتى ألد أعدائه (صلى الله عليه وآله) ، فعندما كتب الله النصر لنبيه عند فتح مكة وتحطيمه أوثانها قال لهم (صلى الله عليه وآله) (يا معشر قريش ويا أهل مكة ما ترون أني فاعل بكم ؟ قالوا : خيراً ، أخ كريم وابن أخ كريم فقال : اذهبوا فأنتم الطلقاء ) .
إنّ هذه المعاني السامية لابد أن نستلهما لتكون لنا نبراساً في حياتنا المعاصرة وواقعنا الاجتماعي ، فنحن بأمس الحاجة الى الشجاعة والحزم في اتخاذنا القرارات الصائبة والإصرار عليها والاستعداد للمواجهة في جهاد النفس وجهاد الأعداء ، ولا ريب أنّ التخاذل والانجرار مع الرغبات والنزوات هو سمةً من سمات المنزلقين في مزالق الشيطان ، والسائرين على ركابهم و أنّ مراجعة الذات والتغلّب على الشهوات يستدعي توافر الشجاعة الكافية لدى المرء للتغلب على وساوس الشياطين وكل جهادٍ إنما يتطلب القدر الكافي من الشجاعة ولو لم تكن الشجاعة من مصاديق الجهاد لما وصف النبيّ(صلى الله عليه وآله) جهاد النفس بالجهاد الأكبر عندما قال لأحد أصحابه :( انصرف من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر " فقيل له : أو جهاد فوق الجهاد بالسيف ؟ قال : " نعم ، جهاد المرء نفسه " ) وهو يوجب الاستغفار والتوبة والتوسل بالنبيّ الأكرم وآل بيته الأطهار (عليهم السلام) . وبلا شكٍ فإنّ أبطالنا في ساحات الجهاد مع الكيان الدّاعشي قد استلهموا من سيرته (صلى الله عليه وآله) الشيء الكثير وعبّأوا نفوسهم بكل القيم النبيلة ، فكانت الشجاعة والبسالة ورباطة الجأش هي السلاح الأمثل الذي حملوه في المواجهة وبذل الغالي والنفيس في الدفاع ومقدساته ، تتبعها الرحمة بالآخرين ودعواهم لمد يد المعونة لمن يتّسع صدره للسلام ويود العيش مع غيره في حبٍ ووئام .