الجندي المجهول المثل الحاضر في ضمائر الشعوب

article image

كلما استوقفتنا بطولات أبي الفضل العباس وتضحياته دفاعاً عن الدين والعقيدة تذكرنا أمه تلك المرأة العظيمة أم البنين فاطمة بنت حزام (رضوان الله عليها)، والتي تمر علينا ذكرى وفاتها، فلقد كانت المثل الأعلى للتضحية بخير الأبناء، وللتعطر بأريج مناقبها(رضوان الله عليها)، ووفائها للزهراء ولأبي عبد الله الحسين (عليهما السلام) ذُكِرَ في بعض الروايات أنها بعد واقعة ألطف كانت تذهب إلى البقيع وتصنع أربعة قبورٍ رمزيةٍ، تكتب عليها أسماء أبنائها الأربعة، ومن ثمّ تصنع قبراً تكتب عليه هذا قبر الحسين، فتحتضن قبر الحسين وتبكي عليه بكاءً شديداً ، فتنعاه وتنعى العباس وأخوته، فيبكي لبكائها ونعيها أهل المدينة.
وقد يستغرب القارئ الكريم إلى أن عنوان مقالنا في الجندي المجهول يبتعد عن ما ورد في مقدمته في روايتنا عن القبور الرمزية التي كانت تصنعها أم البنين (رضوان الله عليها) كون أنّ قبر ولدها أبي الفضل العباس أصبح صرحاً شامخاً تؤمُّه الناس من أقصى البقاع، فهو باب الحوائج عند الله سبحانه تعالى، وباقي أبنائها الثلاثة(رضوان الله عليهم) دفنوا بجوار أخيهم سيد الشهداء الإمام أبي عبد الله الحسين (عليه السلام)، إلا أنَّ قصة القبور الرمزية هذه حملتني بعيداً بمشاعر الحزن والأسى على الكثير من الأبطال الشجعان من شهدائنا في الحشد الشعبي الذين قدَّموا أرواحهم تلبيةً لفتوى المرجعية الرشيدة في الدفاع عن الوطن والمقدسات، ولم يعثر لهم على رفاتٍ ولا قبورٍ تُزار، ويبدو أن فكرة القبر الرمزي التي جاءت من هذا المعنى قد ترسخت في بروتوكولات الشعوب، وعادات وتقاليد الأمم للتعبير عن اعتزازها ببطولات وتضحيات أبنائها في وضع باقاتٍ من الزهور على ما يسمى نصب أو قبر الجندي المجهول ، وهو القبر الرمزي للمقاتل المضحي بدمه دفاعاً عن وطنه وقضيته العادلة وقدَّم حياته بصمتٍ ، فهو من يبقى حياً في ضمير الأمة ووجدانها،ويبقى دمه نابضاً في عروقها، وهذا التقليد قد اتبعته بعض الدول الأوروبية وبعض دول الشرق، فقد رأى قادة دول الحلفاء بعد الحرب العالمية الأولى أن جثث الكثيرين من الجنود الذين لقوا حتفهم في المعارك لا يمكن التعرف عليها، وقررت حكوماتها تكريم ذكرى هؤلاء الجنود بطريقة خاصة، فقامت كل حكومة باختيار جندي مجهول رمزي في العاصمة ، أو بالقرب منها، ثم بنت نصبا تذكاريا أو ضريحا تكريما له. لقد زخر تأريخنا الإسلامي بتضحياتٍ جسامٍ ودماءٍ سالت لتروّي شجرة الرسالة ولولاها لما كتب للإسلام البقاء، فلقد كان الأوائل من المسلمين يتسابقون لنيل الشهادة غير مكترثين بالموت أن ينزل بساحتهم، ويبذلون أرواحهم بعيداً عن أوطانهم فلا يكترثون بالموت بعيداً عن الأوطان وإن لم يبق لهم أثرٌ ولا قبرٌ يزار، فهم يعدّون كلّ ما يحصل لهم هو الخير مادام الإسلام بخير، وماداموا يحملون الرسالة إلى الناس كافة ، ولم يكونوا ليأبهوا من كثرة عدوّهم ماداموا على الحق، ولقد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله) يبعث بأصحابه إلى ممالك الأرض مبشرين ومنذرين، وفي الوقت ذاته كان المسلمون يتعرضون للعدوان من المشركين واليهود والنصارى بما يضطره ذلك (صلى الله عليه وآله) إلى إرسال السرايا وشن الحروب والغزوات للرد بالمثل حفاظاً على هيبة الدولة الإسلامية الفتية مصداقاً لقوله تعالى:(..فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُواْ اللّهَ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ)، وكان ذلك ما يكلف المسلمين الكثير من التضحيات فمنهم من يحظى بوسام الشهادة في سبيل الله، ومنهم من يقع في الأسر متعرضاً للبطش والتعذيب، ويذكر المؤرخون في قصة أسر الروم الصحابي عبد الله بن حذافة السهمي، كيف قال له الطاغية ملك الروم تنصَّر وإلا ألقيتك في البقرة - والبقرة إناءٌ من نحاسٍ يُغلى فيه الزيت - فقال الصحابي ما أفعل فدعا برجلٍ من أسرى المسلمين فعرض عليه طاغية الروم أن يترك الإسلام ويعتنق النصرانية، فأبى فألقاه في ذلك الزيت المغلي، وإن كان المسلمون الأوائل قد عمدوا إلى تدوين آثار السرايا والغزوات ومن شارك أو استشهد فيها، ولم تزل الأجيال تتناقلها ليطلع أبناء الأمة على مآثر أجدادهم من المسلمين وبطولاتهم، إلا أنه في هذه الرواية لم يُذكر،إلا صمود الصحابي عبد الله بن حذافة الذي أطلق سراحه آخر الأمر مع ثمانين أسيراً وعادوا إلى المدينة، فلم يُعرف من هو هذا المسلم المضحي الذي آثر الموت والشهادة على ترك دينه فكان أسوةً لصمود الآخرين أمثال عبد الله بن حذافة ومن معه، ولولا هذا الصمود لما حازوا احترام أعدائهم وكان ذلك السبب في إطلاق سراحهم، ولقد ترك لنا أسلافنا من شواهد البطولة والفداء لرجالٍ أرخصوا أرواحهم في الذود عن المبادئ والقيم الشيء الكثير من أمثال هذا المسلم المضحّي فهم الجنود المجهولون الذين يهبون حياتهم في الظل دفاعاً عن الإسلام وأهله، ولو أنّ الإيمان المطلق والذوبان في حبِّ الله سبحانه لا يترك في نفس المؤمن وقلبه فراغاً لغير اليقين التام بأن الشهداء هم أحياءٌ عند ربهم يرزقون، ولا أحسب البتة أن من يقدم على الشهادة يفكر بأدنى من ذلك، إلا أننا ندور ونفكر في الحيز الذي يفكر فيه غير الشهداء من ذويهم ومحبيهم، وفي الحيز الذي يفكر فيه أصحاب الضمائر الحية ممن يشعرون بصدقٍ بأنهم مدينون للشهداء وتضحياتهم في سبيل الوطن والمقدسات، وأن ما قدموه ليس بالقليل إزاء عدوٍّ بربريٍّ يفتقر إلى أدنى المقومات الإنسانية، ، عدوٍّ يتنكّر لكل ما يتمثله أو يحترمه المجتمع الإنساني من معانٍ روحيةٍ ورمزيةٍ، فهو ينسف القبور ويهدم الأضرحة ويهدُّ كل ما يتصل بالتراث والفكر الإنساني، والمجتمع الإنساني مدين لأؤلئك الشهداء الذين قدّموا أرواحهم في معركة الشرف دفاعاً عن الوطن والمقدسات، وخاضوا معركة التصدي لأعداء الإنسانية، إنَّ أدنى ما يمكن أن يُقدم للشهداء هو أن توثق قصص بطولاتهم وتضحياتهم وأن نحرص باستمرار على إحياء ذكراهم والتفاخر بها عبر الأجيال وخصوصاً أن ما قدّمه شهداؤنا في معركة الشرف مع العدوّ الداعشي ما ترتفع به رؤوس كل العراقيين الشرفاء فالأمم والشعوب المجيدة هي التي تتغنى دائماً ببطولات أبنائها الشجعان، كما ينبغي الاهتمام البالغ بأسر الشهداء وضمان استحقاقاتهم، وعلى الجميع إشاعة روح التقديس والإجلال للشهداء والسعي في تقديم العون والدعم الدائم لأيتامهم وأراملهم، فلا يتمنن عليهم أحدٌ بشيء وإنما هم أصحاب الفضل والمنِّة علينا جميعاً، وينبغي الإشادة في هذا المقام لما تبذله المرجعية الرشيدة المتمثلة بسماحة المرجع الديني آية الله العظمى السيد علي الحسيني السيستاني (دام ظله الوارف) من خلال مؤسسة العين الإنسانية ومعها كل الأيادي الخيرة في الدعم المتواصل لعوائل الشهداء، وإن الاستمرار في ذلك يؤكد وفاءنا لشهداء الحق والعقيدة.