صفحات من نور

article image

ترددت كثيراً عندما أرسلوني بمهمة إعلامية في إحدى القطعات العسكرية القريبة من خطوط النار, لكنني وقفت متأملاً ومتحيراً من هؤلاء الأبطال الذين يعتلون الخطر مصرين على القتال والصمود والمقارعة من دون كلل أو ملل أو تراجع.
فلقد أخرست هتافاتهم الجريئة لساني المتردد, وأصمّ أزيز رصاصاتهم لاقطة التسجيل التي أحملها, وحتى الكاميرا فقد عطبت وتوقفت عن التصوير فليس ثمة لسان يتحدث إلا لسان بطولاتهم الصدّاح, أما عيني فقد ظلت شاردة شرود نفسي فماذا تصور وماذا تلتقط؟ وماذا تسمع أذناي من قصص قتالية وبطولات عجيبة؟ فمواقف الشجاعة كثيرة وصور البسالة زاخرة بالعبر, وكل واحد منهم يمثل أسطورة تقتحم التأريخ, فالقلم يعجز عن الكتابة والكلام يكلُّ عن الوصف.
ومن بين هذه المواقف العظيمة التي هزت كياني وأدهشتني هو موقف ذلك الطفل الشجاع الذي جاء مع القوافل المحملة بالمواد الغذائية والمتطلبات الأساسية لدعم المجهود الحربي, ولشدّ ما أثار استغرابي عندما قال بأنه أصبح يأتي في كل أسبوع إلى هذه الأماكن الخطرة, مضحياً بنفسه طارداً الرعب والخوف من قلبه الصغير, إذ تعودت عيناه على رؤية أجواء الحرب والتعايش معها وقد طوى صفحة برائة الطفولة واللعب وتركها في أدراج النسيان.
وتأثرت أكثر وسقطت الدموع من عيني خجلا عندما قال لي هذه الكلمات التي ما زالت تتردد في مسامعي: (لقد استشهد والدي في ساحة الوغى وهو عطشان كما استشهد الإمام الحسين (عليه السلام) وهو عطشان, وسأصبح أنا كأخيه العباس (عليه السلام) ساقي العطاشى وسأبقى أسقي المجاهدين ولن أخاف الموت أبداً), وعلمت أيضاً بأن العدو قد دمر قافلة الإمدادات التي كانت متوجهة إلى المنطقة الحربية التي كان والده متواجداً فيها قبل أن يستشهد ظامئاً, فأخذ هذا اليتيم على عاتقه تحمل المسؤولية, ونذر نفسه لدعم المجاهدين وتزويدهم بالماء والغذاء على الرغم من معارضة أهالي المنطقة من أخذه معهم نظراً لكونه طفلاً ولا يمكن أن يتحمل الأخطار والصعاب لكنه كان يُصر على الذهاب حتى لو كان الثمن هو حياته.
لقد تعلمت من هذا الطفل الكثير من الدروس منها الإصرار والعزم والإقتداء بالعظماء, وتيقنت من خلاله بأن العطاء لا يتحدد بعمر أو بمكان أو بزمان, لهذا عاهدت نفسي أولاً بأن أشارك أخواني المجاهدين في القتال وفي الدعم لهم ولعوائلهم, واسخِّر كل طاقاتي وما أمتلكه من قدرات في مجال عملي كإعلامي في إظهار ونشر تلك المواقف البطولية التي تحوي بين طياتها الكثير من العبر والمواعظ التي لابد أن يخلّدها التأريخ بأحرف من نور.