ثــــورة تأجيـــج المشاعــــر
(الناس على دين ملكوهم) قول قد يحكي بعض أحوال المجتمع الذي عاصر الإمام السجاد (عليه السلام) هذا المجتمع الذي كان يرى ما يراه شرذمة الحكم آنذاك وهو إن الإمام الحسين (عليه السلام) والثلة الطيبة التي كانت من ورائه هم ركبٌ من الخوارج, وإن قرار استئصالهم كان صائبٌ، ومن هنا كان الإمام زين العابدين (عليه السلام) حريصاً الحرص كله على أن يرد تلك المؤشرات النكراء، ويدرأ سيل الإجحاف، ويرجع الأمور إلى نصابها الصحيح ويقوم بدور إعلامي -إن صح التعبير- يشرح ويبين من خلاله أبعاد ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) وتعبئة الرأي العام بحصيلة المفاهيم التي ثار من أجلها الإمام الشهيد (ع)، إلا إن الجو السياسي المحيط بالإمام لم يكن مؤاتي البتة، إذ وضعَ (عليه السلام) تحت رقابة صارمة ومراقبة شديدة وقيدت تحركاته إلى حدٍ كبير ومنع من ارتقاء المنابر أو ممارسة أي نشاط علني في إطار التبليغ بمأساة الطف، ومع هذا كله أصرّ(عليه السلام) أن يُلهب المشاعر ويثير العواطف عبر التذكير بالقضية الحسينية تلك القضية التي عاشت بين حنايا صدره ودواخل وجدانه وصفحات روحه ما إن وهبت له فرصة من هنا أو هناك حتى يُذكي ويوقد روح الحماس في النفوس, متخذاً في سبيل تحقيق ذلك وسائل عدة كان من بينها البكاء، إذ بكى الإمام السجاد (عليه السلام) أكثر من عشرين عاماً على أبيه الحسين (عليه السلام)، حتى عُدَ من البكائين، وبكائه هذا لم يكن جزعاً لا من قريب ولا من بعيد بل كان جزءاً من برنامجه النضالي والجهادي وهذا ما نجده من التأمل لظاهرة بكائه (عليه السلام) على واقعة الطف والتي أوحت بأكثر من معنى وأكثر من دلالة، فمن خلال درر دموعه استطاع أن يكشف (عليه السلام) عن الظلامة التي تعرض لها أبيه الشهيد في صحراء كربلاء وإنكاره الشديد على القتلة الآثمين الذين اقترفوا أثم تلك الجريمة النكراء، فكان حتى في بكائه صاحب مشروع ثوري على شياطين الحكم الأموي، فالبكاء عموماً يثير تساؤل الناس عن أسبابه ومسبباته مما يُشكل ذلك مناخاً صالحاً لبيان مظلومية الإمام الحسين (عليه السلام)، فيروي لنا التاريخ أنه (عليه السلام) إذا أخذ الإناء لِيشرب الماء تذكّر عطش أبيه ومن معه فيبكي حتى يمزجه من دموعه، فإذا قيل له في ذلك، يقول: (كيف لا أبكي وقد مُنِع أبي من الماء الذي هو مطلق للوحوش والسباع) ، وقد يُسأل أحيانا فيقال له: أما آن لحزنك أن ينقضي؟ فيرد (عليه السلام): (ويحك إن يعقوب النبي (عليه السلام) كان له اثنا عشر أبناً فغيب الله عنه واحداً منهم فابيضت عيناه من كثرة بكائه عليه، وشاب رأسه من الحزن، واحدودب ظهره من الغم، وكان ابنه حياً في الدنيا، وأنا نظرت إلى أبي وأخي وعمي وسبعة عشر من أهل بيتي مقتولين حولي فكيف ينقضي حزني) ، فخاطب (عليه السلام) مشاعر الناس مذكراً إياهم بمجريات واقعة الطف الفظيعة حتى في تجواله بين أزقة المدينة، إذ يمرّ ذات يوم بجزار في السوق وبيده شاة يجرها إلى الذبح فناداه الإمام (عليه السلام) يا هذا هل سقيتها الماء؟ فقال الجزار: نعم يا ابن رسول الله نحن معاشر الجزارين لا نذبح الشاة حتى نسقيها الماء, فبكى الإمام (عليه السلام) وصاح: (وا لهفاه عليك أبا عبد الله الشاة لا تذبح حتى تسقى الماء وأنت ابن رسول الله (صلى الله عليه وآله) تذبح عطشان) , وأيضاً يروى عنه أنه سمع ذات يوم رجلاً ينادي في السوق: (أيها الناس ارحموني أنا رجل غريب, فتوجه (عليه السلام) إليه وقال له: لو قدر لك أن تموت في هذه البلدة فهل تبقى بدون دفن, فقال الرجل: الله أكبر كيف أبقى بلا دفن وأنا رجل مسلم وبين ظهراني أمة مسلمة, فبكى الإمام (عليه السلام) وقال: وا أسفاه عليك يا أبتاه تبقى ثلاثة أيام بلا دفن وأنت ابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله)) , وبذلك هيأ الإمام السجاد (عليه السلام) مناخاً ساخطاً على الظالمين ولافظاً لهم، من خلال بثه لتلك المظلومية في الآفاق عند احتكاكه بجموع الأمة، فاستطاع وبنجاح بالغ أن يدير ألمه بما يخدم قضيته وهي قضية الطف.
والذي ينبغي الالتفات له إن ظاهرة الحزن على فقد عزيز ما هي إلا ظاهرة فطرية، إذ إن أي إنسان كائناً من كان -نبياً أو وصياً أو شخصاً ما- يندفع مباشرة إلى إعلان الحزن وإظهار التفجع كرد فعل طبيعي للألم الذي يتحسسه، والإمام زين العابدين (عليه السلام) هو إنسان قبل أن يكون إماماً ووصياً، وإن مسألة استئثار الحزن بالإمام السجاد (عليه السلام) لم تخرجه من دائرة الإنسانية, كما لم تُخرج نبي الله يعقوب من تلك الدائرة من قبل، كما وقد رغّبَ وشجّعَ (عليه السلام) جموع الأمة على البكاء واستدرار الدموع على مصرع سيد الشهداء (عليه السلام) بما في ذلك من مثوبة عظمى، فيقول: (أيما مؤمن ذرفت عيناه لقتل الحسين (عليه السلام) حتى تسيل على خده, بوأه الله غُرفاً في الجنة يسكنها أحقاباً) .
مما سلف يمكن القول إن الإمام السجاد (عليه السلام) استطاع أن يُبين من خلال حزنه الدائم على أبيه الحسين (عليه السلام) المسوغات الشرعية لرفض سياسة من حكموا الأمة باسم الخلافة لرسول الله (صلى الله عليه وآله)، ويجعل من الشخص المتقهقر متقدم نحو الحالة الثورية على اختلاف مراتبها من الإنكار القلبي لسياسة أئمة الجور هؤلاء إلى الخروج المسلح عليهم.