استهزاء الشيطان

article image

طال انتظاري وتبدد صبري مع تسارع عقارب الساعة حتى بدأت الشمس تغرب وتلملم أشعتها، عازمة على الرحيل منادية إياي بالرجوع وكف النظر إلى الأفق البعيد, لأجزم إنه لن يأتي أبداً وقد أخلف بوعده لي.
لم أنم تلك الليلة التي تباطأت ساعاتها، وما برحت الأفكار بالانتقام منه تهاجمني من كل الجهات، وتجعل الدم يغلي في عروقي، والغضب يسيطر على أعصابي استعداداً للانفجار كالبركان الهائج. لن أسمح له بعد الآن بالضحك والتحايل عليّ واستغلال طيبتي بالمسكنة والتظلم, وتخدير أعصابي بجرعات الوعود الكاذبة والعبارات الرنانة التي يشوبها الزيف, فأنا أعتبر نفسي الملام الأول لأنني أثق بالناس وأصدق بكل ما يقولونه. سأذهب غداً باكراً إلى الشرطة وأنهي الأمر فلا مجال للرحمة بعد أن استشرى الخداع في النفوس.
انتظرت الفجر بفارغ الصبر، وناديت الشمس كي تنثر أشعتها بسرعة لأقطع خيوط تلك الصداقة الواهنة, فهرعت إلى سيارتي قابضاً على مقودها بشدة, وأعصابي متوترة وأسناني مصطكة بعضها ببعض, وعيناي ترسلان شرارات النار حتى كدتُ أدهس الأشخاص الذين عبروا من أمام سيارتي, وما إن وصلت إلى مركز الشرطة حتى انفجر البركان الذي بداخلي وصرخت عالياً وأعطيتهم اسمه ورقم هاتفه وعنوانه الكامل, علّه يتوب ويندم على فعلته بعد أن يذوق طعم مرارة السجن وذله وهوانه.
فكرت كيف ستكون ردة فعله على هذا الأمر؟ وفي أثناء طريقي إلى مقر عملي اتصلت بي زوجتي وسألتني: أين أنت لقد بحث عنك في أرجاء البيت ولم أجدك؟ فأجبتها بعصبية: ما هذا السؤال الغريب ولِم تبحثين عني؟ ألا تعلمين بأنني في هذا الوقت أذهب إلى عملي؟, فرّدت عليّ: لقد نسيت الموعد إذن؟ ألم تعدني أن تذهب معي إلى المستشفى لأجري بعض التحاليل المهمة؟ فأقفلت الخط بالحال من دون أن أعتذر إليها, وأدرت مقود السيارة ورجعت إلى البيت بسرعة وأنا مشوش الفكر، مهدود الجسد، متأسفاً على نسياني، علّني أتدارك الوقت, فمبدأي يرفض التهاون بالمواعيد ونقض الوعود، ولكن ماذا أفعل؟ لقد حكمتني الظروف بالنسيان.
وصلت أنا وزوجتي إلى المستشفى متأخرين ورفضوا إجراء التحاليل لأننا لم نصل بالموعد المحدد فخابت آمالنا, وشعرت حينها بندم شديد ولا أدري كيف أعتذر من زوجتي؟ حتى هي لم تتكلم أبداً وحال بيننا صمت مديد ونحن نمشي معاً بين أروقة المستشفى.
فتبدد هذا الصمت حينما لمحت زوجتي تلك المرأة التي تعالى صوتها البكاء والنحيب, وقالت لي: انظر هناك إنها زوجة صديقك, سأذهب إليها لأسألها عن سبب صراخها, فغضبت وأمسكت يدها بقوة وأمرتها بعدم الذهاب, وقلت لها: فلتذهب إلى الجحيم هي وزوجها، وما شأننا نحن بهما؟
فنزعت يدها وردت عليّ باستغراب: ماذا دهاك؟ ألم يكن زوجها صديقك المقرّب؟ ولمّا انتبهت زوجته لوجودنا هرعت إلينا, وقالت لنا: لقد أتيتما من أجل زوجي, أنا أشكر سعيكما ومجيئكما للاطمئنان عليه؛ استغربت من كلامها وقلت في نفسي: ولكن أيعقل أن الخبر وصل إليه بهذه السرعة وأصيب بجلطة قلبية لأنني رفعت شكوى عليه؟
فقالت لها زوجتي: ماذا حصل له وكيف حاله الآن؟ فأجابت ودموعها تنهمر وتنظر إليّ: لقد ذهب عصر يوم أمس للقائك حسب الاتفاق والموعد المحدد, لكنه تعرّض لحادث سير وحالته الآن خطرة جداً وأرجو منكما أن تدعوا له بالشفاء, وهذا هو المال الذي إستدانه منك وأراد أن يرجعه إليك حينها, فقد جلبوه إليّ الذين أنقذوه مع محفظته وهاتفه الشخصي جازاهم الله ألف خير.
ضربت رأسي ندماً وخجلاً. لقد أسأت الظن بصديقي ودفعتني شكوكي وأفكاري السوداء إلى الانتقام وأخذ الحيف منه مع إنه بريء, وبالمقابل أحسنت زوجته ظنها بي عندما خمنت بأنني هرعت مع زوجتي لزيارته, سأذهب في الحال وأسقط الدعوى, يا لسخرية الأقدار! لقد جعلنا الشيطان يهزأ بنا ويتلاعب بعقولنا.