الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) شعاعٌ هادٍ وبلسمٌ شافٍ

article image

في عصر الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) ظهرت ألوان من المظاهر المنحرفة التي شكلت خطراً كبيراً على وجود وكيان الإسلام المحمدي الأصيل، لذلك وضع الإمام (عليه السلام) برنامجاً متكاملاً الأبعاد لمحاربة بوادر الانحرافات ومعالجة الأوضاع المعوجة وكبح جماح السلبيات المستشرية ورد التحديات الفجة، على الرغم من أن الظرف العام الذي أحاط بالإمام (عليه السلام) كان شديد الخطر وبالغ التعقيد، حيث ضُيقَ عليه بشكل كبير فلم تتح له فرصة ارتقاء المنابر للوعظ والإرشاد، وكان(عليه السلام) يعيش في ظل رقابة صارمة من قِبل السلطة العباسية وأذنابها، كما إنه(ع) سُجن فترة من الزمن، وفي هذه العجالة يطيب لنا أن نذكر منهجين ضمن برنامج الإمام (عليه السلام) الإصلاحي الهادف إلى تهذيب الأخلاق:
الوعظ اللساني
من بين الوسائل التي أراد الإمام(عليه السلام) من خلالها إحياء المفاهيم الأخلاقية في النفوس هو سرد الوصايا والعظات، وهذه التوجيهات الغراء لا تمثل إلا جزءاً يسيراً مما كتبه المؤرخون، وهي على سبيل المثال لا الحصر واستقصاؤها يطول ولا يتسع لها صدر إصدارنا هذا، فنختار مما قال(عليه السلام) في هذا الشأن ما يلي: قوله(ع): (أورع الناس من وقف عند الشبهة، أعبد الناس من أقام على الفرائض، أزهد الناس من ترك الحرام، أشد الناس اجتهادا من ترك الذنوب) ، وجاء عنه(عليه السلام): (إياكم أن تفرطوا في جنب الله فتكونوا من الخاسرين، فبعداً وسحقاً لمن رغب عن طاعة الله ولم يقبل مواعظ أوليائه، فقد أمركم الله بطاعته وطاعة رسوله وطاعة أولي الأمر) ، وله (عليه السلام) وصية غاية في الروعة: (أوصيكم بتقوى الله والورع في دينكم والاجتهاد لله، وصدق الحديث وأداء الأمانة إلى من ائتمنكم من بر أو فاجر، وطول السجود وحسن الجوار، فبهذا جاء محمد (صلى الله عليه وآله)، صلّوا في عشائرهم واشهدوا جنائزهم وعودوا مرضاهم وأدوا حقوقهم، فإن الرجل منكم إذا ورع في دينه وصدق في حديثه وأدّى الأمانة، وحسن خلقه مع الناس قيل: هذا شيعي فيسرُّني ذلك، اتقوا الله وكونوا زينا ولا تكونوا شينا، جروا إلينا كلّ مودة وادفعوا عنا كل قبيح، فإنه ما قيل فينا من حسن فنحن أهله، وما قيل فينا من سوء فما نحن كذلك، لنا حقٌّ في كتاب الله وقرابةٌ من رسول الله وتطهير من الله لا يدَّعيه أحد غيرنا إلا كذّاب، أكثروا ذكر الله وذكر الموت وتلاوة القرآن والصلاة على النبي (صلى الله عليه وآله)، فإن الصلاة على رسول الله عشر حسنات) .
هكذا نرى أن الإمام (عليه السلام) أبدع كل الإبداع في صياغة جمله العسجدية في بودقة الفضيلة، داعياً بها ومن خلالها إلى تطهير الأرواح من درن السلوكيات الذميمة والممارسات القبيحة، لذلك كان لِزاماً على كل مسلم أن يديم النظر فيها ويعطف الفكر لها حتى يتأصل مدلولها في نفسه، ويترسّخ مفهومها في داخله وينطلق منها في سلوكه وعمله، فتلكم الوصايا والمواعظ البليغة لم تكن ضرورة المرحلة التي عاشها الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) فحسب، بل إن مفعولها لم ينته بعد وإلى يوم يبعثون وكأنها-وهي كذلك- قيلت لمخاطبة الناس في كل آن ومكان، وإلى أن يشاء الله سيبقى هذا الأثر العظيم والسِفر الفريد يطرق أسماع الإنسانية على مر الدهور والعصور، فتلك الوصايا العسكرية الغراء بما حوت من كنوز المعارف الأخلاقية غدت منهجاً للسلوك القويم وأسلوباً للحياة الحرة الكريمة.
العبرة بالسلوك
إن كفاح الإمام الحسن العسكري(عليه السلام) نحو إصلاح النفوس لم يكن عن طريق سرد الوصايا والعظات، بل كان(عليه السلام) مؤدِّباً ومرشداً ومعلماً بسيرته العطرة وسلوكه السويّ بين عموم الناس، حتى إنه ضرب أروع الأمثلة في تجسيد الخلق المحمّدي الرفيع مما كان له الأثر الكبير في هداية المنحرفين الذين أقبلوا عليه وعلى نهجه القويم، فكان (عليه السلام) قدوة في السلوك لمن عاصره وموضع إعجاب محبيه وأعدائه على السواء، فهذا (علي بن نارمش وهو من أنصب الناس وأشدهم على آل أبي طالب، وهذا الشخص كان سّجاناً للإمام وموضع ثقة السلطان، بفضل سلوك الإمام العبادي والأخلاقي، انقلب حاله وكيانه، فخرج من عند الإمام وهو أحسن الناس بصيرة وأحسنهم فيه قولاً) ، (وعندما كان الإمام (عليه السلام) في سجن صالح بن وصيف، أمرت السلطة العباسية أن يضيق عليه ولا يوسع، فرد عليهم صالح: ما أصنع به؟ وقد وكلت به رجلين شرّ من قدرت عليه، فقد صارا من العبادة والصلاة والصيام إلى أمر عظيم) .
هكذا عالج الإمام الحسن العسكري (عليه السلام) النفوس المريضة، وأيقظ الضمائر، حتى استطاع أن يقلع منها النزعات الهدامة لا بقوة السلاح بل بسلاح بالموعظة الحسنة والسلوك السوي، فكان يعطي جرعات تربوية ناجعة شافية لمرضى الأخلاق حتى يستأصل علتهم، فسار على نهج جده (صلى الله عليه وآله) صاحب الخُلق العظيم، والذي نوه به الذكر الحكيم: (وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ).