سهام حارقة في ليلة باردة

article image

تعثرت خطواتي وتباطأت, فقلبي يدفع بها قدماً وعقلي يضع بينها العراقيل ويأمرها بالرجوع, إنه نفس الطريق الذي شهد معاناتي وتساقطت عليه دموعي وعاهدت نفسي حينها بأن لا تطأه قدماي أبداً, إلى أن وصلت إلى الباب التي أوصدت بوجهي سابقاً فتسمرت أمامها, أأطرقها مجدداً أم لا؟
فقررت أخيراً أن أدخل وأنهي الأمر أظنه مجرد توقيع فقط, حتى ناداني صوت من الحاكية (أدخل أهلاً بك) ففُتِحَت الباب وأُغلقت أوتوماتيكياً بعد دخولي مباشرة وعلى الرغم من هذه الحدائق الواسعة إلا أن أنفاسي بدأت تضيق فالذكريات الأليمة تحوم حولي كيف أنسى تلك الليلة الباردة والسهام الحارقة التي تلقفتها وسعرت قلبي وجعلتني لا أشعر ببرودتها.
وأخيراً دخلت متوتراً فسمعت صوتاً متقطعاً ينادي: (تعال يا أخي) أيعقل أن يكون هو الذي ناداني؟! لا لا هذا مستحيل!.
جال نظري في أرجاء المنزل حتى رأيت شخصاً مستلق على السرير وحاله بائس ووجهه متذلل وهو يومأ بيده وبالكاد ينطق بالكلمات, يا ترى من يكون؟
يا ويلي.. إنه هو، ولكن ما الذي أوصله لهذا الحال؟ أين تلك القوة والعزة والجاه والتجبر والسطوة؟ أين ذهب ذلك الصوت ذو النبرة الحادة الآمرة الناهية؟ أين ذهب ذلك القلب القاسي الذي لا يعرف معنى الرحمة ولا يهتز للعواطف والبكاء ولا يعترف بصلة الأرحام؟ ما زلت أتذكر وجهه المتجهم وهو يصرخ ويقول لي: أخرج من بيتي لا أريد أن أراك بعد الآن.
تنبهت لصوته وهو يبكي: سامحني يا أخي, فقلت في نفسي: لطالما تمنيت أن أسمع هذه الكلمة طوال حياتي, لقد هزت كياني ونسيت الذي حصل بيننا حتى ارتميت في أحضانه ولأول مرة وأجهشنا سوية بالبكاء وشعرت حقاً بأن لي أخاً بعد هذا العمر الطويل لأن علاقتي به كانت لا تتعدى علاقة الموظف بمديره.. بعدها خاطبني بصعوبة: لقد كان كل همي الثروة وكيفية الاستيلاء عليها وتنميتها, وفي ذلك اليوم ظننت بأنك أتيت لتطالبني بحصتك التي حرمتك منها بجشعي وطمعي فجن جنوني حينها ولم أعطك فرصة للتحدث, ولكنني الآن بعثت إليك لأبلغك بأنني ندمت ندماً شديداً وتنازلت لك عن كل ما أملك بعدما تلقيت ضربات عنيفة من الذين تعاملت معهم ما بين الغدر والسرقة والاختلاس, ولم أسمع تحذيراتك ونصيحتك في شأنهم حتى خسرت جزء كبيراً من أموالي, وقُصِم بذلك ظهري وتدهورت على أثرها صحتي وأصبحت كما ترى الآن وهذا ما أستحقه طبعاً فكما تدين تدان, ولك الحق في طردي من منزلك هذا الذي أصبح ملكك كما فعلت أنا سابقاً وتأخذ حيفك مني.
فتبسمت وقلت له: أنا أطردك! أتعرف لماذا أتيت في تلك الليلة الباردة؟ جئت لأخبرك بأنني مستعد بأن أتنازل عن حصتي وأوقع لك بعدما عزمت عليه من الذهاب سيراً إلى زيارة الإمام الحسين وأخيه أبي الفضل العباس (عليهما السلام) لأبرأ ذمتي أمام الله سبحانه وأسامحك وأذهب مطمئناً إلى هذه الزيارة المحفوفة بالمخاطر وخاصة التفجيرات الإرهابية التي تحصد حياة العشرات.
ولما سمع هذا الكلام مني استغرب وبكى وصرخ عالياً: أنت عرفت معنى الأخوة والوفاء والتضحية والإيثار من أجل إسعاد أخيك العاصي والجاني والمتعجرف, ولم تقطع أواصر هذه الرابطة على الرغم مما عانيته منه, ولم تفعل كما فعلت أنا حيث محوت كل أثر يجمع بيننا, وليت الكل يتعلم هذه المبادئ منك يا أخي العزيز.
فقلت له: لا ليس مني وإنما من مدرسة أبي الفضل العباس (عليه السلام) الذي كان عضداً وسنداً لأخيه سيد الشهداء (عليه السلام) ولم يقل له كلمة يا أخي طوال حياته بل كان يناديه سيدي حياءً وخجلاً منه وتعظيماً لشأنه إلا في لحظاته الأخيرة حيث نطق بها بعدما أرخص نفسه الشريفة من أجل نصرته, والآن أنا مستعد بأن أضحي بالغالي والنفيس من اجل سماع هذه الكلمة منك دائماً.