التساقط والتراجع في مواقف الأمة

article image

أول ما يتبادر ويجري على لسان الأمة تبريراً عما بدر من قصورها وتفريطها بحق قادتها وسادتها، قولها أن القلم جرى بما لا نشتهي، وحتم القضاء والقدر أمراً ما كنا قادرين على منعه، وهي بقولها هذا تحاول أن تخلي ذمتها ومسؤوليتها أمام الله وأمام التاريخ، مما تعرض له الأئمة المعصومين من ظلم وجور وقتل وتشريد، وقد رضت من نفسها الوقوف على التل وقوفاً حيادياً من كل ما يجري عليهم، وكأنها لم تكن يوماً معنيةً بحفظ الأمانة التي أودعها رسول الله (صلى الله عليه وآله) عندها يوم قال :(أوصيكم الله في أهل بيتي، فإنهم وديعتي فيكم) ، وليت الأمة أدركت قيمة ما استودعت من وديعة، وما استُحفظت من أمانة، وليتها لم تتراخى في واجبها، ولم تنحدر عن قمة الامتثال لأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله) شيئاً فشيئاً، وليتها لم تنغمس في لهواة الضلالة، وتسوم عند مراتع الفسق والفجور، ولم تبتلع الطعم الذي هيئته أجهزة الدولة الحاكمة، حتى منيت الأمة بهزيمة نفسية نكراء، وذابت شخصيتها في أحماض التبعية، وتراخت عزيمتها في اتخاذ المواقف المصيرية، وسلبت قواها لتصاب بالتميّع والشلل التام اتجاه أي أمرٍ يحتاج منها إلى وقفة تغيير، ما جعلها لا تجرؤ على رفع رأسها أمام حكام الجور، وهذا بمثابة الرضى الضمني الذي سمحت به الأمة لحكامها في ممارسة ظلمهم ضد أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، رغم إنها تدعي حبهم لكنها لم تعرب عن حبها ولم تحرك ساكناً اتجاه ما يجري عليهم، بل إنها تخلت عنهم وأمعنت في عقوقهم، يقول الإمام الصادق : (يدعون حبنا ويتبعون عقوقنا) ، فما عاد يفرق عندها بأي وضعٍ كان إمامها، فليس عندها الاستعداد كي تبدي أية ردة فعلٍ مهما كانت بسيطة، حتى لو قتل إمامها شر قتله علناً على مرأى منها ومسمع، ولعل ما جرى على إمامنا الجواد الذي تمر علينا ذكرى استشهاده في آخر يوم من شهر ذي القعدة، لهو مؤشر خطير يكشف عن مدى خذلان الأمة لإمامها، ويكشف عن كونها أمةً مراهقة لم تتشكل شخصيتها الرسالية على النحو المناسب، الذي يؤهلها أن تكون حريصة عليه، وشديدة التفاعل مع تعاليمه وإرشاداته، ما أبقته في عزله شبه تامة إلاّ القليل من أصحابه المخلصين الذين كانوا على تواصل معه، ولم يكونوا أداةً بأيدي الحكام يسخرونها كيفما شاءوا، بل كانوا الرجال الصادقين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه من مؤازرة الأئمة ومناصرتهم والثبات على خطهم ودينهم، ولم يخسر الصحابة وإن تعرضوا للاضطهاد والتعسف إلا إنهم أخذوا حظهم من علوم الإمام وأخلاقه، ولكن الخاسر الوحيد في هذه المعادلة هي الأمة فقد فقدت في هذه الفاجعة أليمة، أكبر عائدة يمكن أن تعود عليها بالعلوم الكثيرة والمعارف الغزيرة، فلو أن الإمام منح فرصة أكبر ومساحة أوسع للعيش، ولم ترزأ بموته في عمر مبكر، لأتيح له أن يرفدها بعطائه وعلومه، ولكن الأمة آلت على نفسها أن تحرم من عطائه وعلومه، ولم تمنح نفسها الفرصة التي كان من المفروض عليها استغلالها بوجوده بين ظهرانيها، وضيعت ما يجدر بها أن لا تضيعه بسبب إفراطها وتفريطها وتسويفها وعدم اكتراثها بمستقبلها.
إن استشهاد الإمام الجواد في ريعان شبابه يقدح في النفس ألماً شديداً، يكاد يوازي ألم الإمام الرضا (عليه السلام) وهو يصف هذا المصاب الجلل: (... يقتل غصباً فيبكي له وعليه أهل السماء ويغضب الله على عدوه وظالمه فلا يلبث إلاّ يسيراً حتى يعجل الله به إلى عذابه الأليم وعقابه الشديد) ، كيف لا يبكيه أهل السماء وقد خلّت الأمة الإسلامية بينه وبين جلاديه، كيف لا يبكيه أهل السماء والأمام يعاني ألم السم، وألم الوحدة، والأمة في شغلٍ عنه ساعة احتضاره، فمسؤوليتها في الجرم لا يقل أبداً عمن سقاه السم، ولا يمكن أن ترحض عنها العار الذي لحق بها جراء تهاونها بحق إمامها.