أنا الجريح

article image

قلبي كسير وحزني عميق ويتجافى جسدي العليل عن مضجعه فأنا ما بين آلام المرض, وبين آلام الفقر والعوز التي تزيد الطين بلة وتدفع بي نحو الاستمرار والاستسلام للمعاناة إلى أن يُختتم كتابي ويصل إلى أجله المحتوم.
تعبت من الرقاد في المستشفى وأنهكني البحث المضني عن متبرع يطمح في الأجر والثواب الآجل وليس الأجر المادي الذي يجني من وراءه آلاف الدولارات, لا أعتقد إن هناك من يتخلى عن جزء من أجزاء جسمه بالمجان؟ ويتحمل المخاطر والآلام وقد يخسر حياته الثمينة جرّاء هذا العمل الإنساني, لقد تغلغل اليأس في نفسي وخارت قواي من كثرة التفكير وتحمل الأوجاع معاً, فلا ليل يُهدأ من لوعتي ولا نهار يُسكن أنيني, إلا الحقنة المسكنة للآلام التي تطبق جفوني لعدة دقائق, وبينما أنا كذلك وإذا بضجيج قد عم أرجاء المستشفى وصرخات قد تعالت هنا وهناك, جعلتني أستيقظ من تلك الغفوة وأهرع كالمجنون مع الناس حتى وصلت إلى ردهة الطوارئ, وهناك كانت المناظر مؤلمة لجرحى الحشد الشعبي, وهم يصرخون ويستنجدون لإنقاذهم مما هم فيه, لقد فجعت برؤيتهم على هذا الحال وهانت عليّ مصيبتي حتى أنني نسيت ألمي وبادرت إلى مساعدة الممرضين في تضميدهم, وكان هنالك مُصاب خارج الردهة فقلت لهم بأن يُسعفوه, فردوا عليّ: إنه ميّت, فلم أصدق لأنني سمعته يلهج بصوت ضعيف (يا حسين, يا حسين), اقتربت منه لأتأكد, وصحت بأعلى صوتي (إنه حي, إنه حي) لقد كانت جراحه شديدة وحالته صعبة مما دفعهم بعد ذلك لإدخاله إلى صالة العمليات الكبرى, لقد تعاطفت معه بشدة وتأسفت عليه لأنني لا أعتقد بأنه سوف ينجو مما هو فيه, ورغم ذلك دعوت له كثيراً بالشفاء فهو لم يغب عن بالي, مما جعلني أسأل عنه وأطمئن على حاله عندما كان في العناية المركزة حتى ظن أهله بأنني صديقه, وعندما علمت بأنهم قطعوا إحدى رجليه تألمت كثيراً, ولكن بفضل الله تعالى لقد عرفت بعدها واطمأننت بأنه تعدى مرحلة الخطر ليُكتب له عمر جديد وحياة مغايرة, فتمنيت أن أراه وألتقي به قبل أن يغادر المستشفى لكن لم يحالفني الحظ, وسرعان ما مرت الأيام وبينما كنت أتلوى من الآلام وإذا برجل بهيّ الطلعة مستبشر الوجه قد أتى متجه نحو سريري وهو يتكأ على عصا, فأخذ يقبلني ويُسلم عليّ بحرارة استغربت وقلت في نفسي: من هذا الرجل؟ هل وصل بي المرض إلى فقدان الذاكرة؟!, فقال لي: أنا الجريح من قوات الحشد الشعبي جئت لأشكرك لما فعلته معي رغم مرضك لقد أنقذتني من الموت المحقق, وقد أخبرتني والدتي بحالتك فأبشر يا أخي سوف أتبرع لك بكليتي لتتعافى وتهجر الألم.
لم أصدق ما سمعت وانفجرت بالبكاء وعانقته وقلت له : كم تمنيت أن ألتقي بك, الحمد لله على سلامتك, ولكن أنا لا أقبل بتاتاً أن تتبرع بعضو آخر من أعضائك لقد نجوت بأعجوبة سابقاً وتريد الآن أن تعرض حياتك للخطر مرة ثانية ومن دون مقابل لا فهذا مستحيل.
فقال لي والدموع تنهمر من عينيه ويداه تشد على عضدي: لقد وهبت نفسي وجسدي كله وأرخصت دمي من أجل الدفاع عن ديني وعقيدتي وأرضي وأهل بلدي والموت من أجل راحتهم وسعادتهم متأسياً بذلك بإمامي سيد الشهداء الحسين (روحي له الفدا) الذي أحيا دين الإنسانية والرحمة وأوصله إلينا بسيل دمائه الزكية وبحز رأسه الشريف وبكسر أضلاعه وتقطيع أوصاله أرباً, فكيف تريدني أن أفرط بإنسانيتي ولا أتبرع بعضو بسيط من جسدي لكي أساعد أخي بل أهبه حياتي كلها إذا أراد مني ذلك.